بسم الله الرحمن الرحيم

بين الرئيسين

بسم الله الرحمن الرحيم
صيدا: 6 ربيع الاول 1442هـ
الموافق له 23 تشرين الاول 2020م
بين الرئيسين
نتخبط بين الانانيات والمصالح الخاصة والطوائفية والمذهبية، وتتراكم الازمات وتتشعب، والجزء الرئيسي من الطبقة السياسية تعيش في عالمها الخاص لا تدفعها الازمات وتراكمها لتغيير النمط السياسي التقليدي البشع.
لا شك انه يصعب علينا ان نكشف عن القلوب ونقرأ النوايا وخفايا النفوس ، ولكن الانسان يكشف عن نفسه بشكل مباشر او غير مباشر كما يقول الشاعر زهير بن ابي سلمى في معلقته الشهيرة:
ومهما يكن عند امريء من خليقة وان خالها تخفى عن الناس تعلم :
لم يكن الكثيرون ليتوقعوا ان يكون تكليف الرئيس سعد الحريري مدعاة لسرورهم واستبشارهم، هؤلاء يخالفونه ولا يرون فيه الرئيس "المخلّص" الذي سينشلنا من الازمات وسيفتح باب الفرج للوطن ، وكثيرون يرون في تجربته ما يؤكد كل ذلك، ومع ذلك وضمن تراكم الازمات وتشعبها وضمن الفشل المتراكم على كل الصعد وضمن الضياع الذي يعيشه الوطن نرى ومعنا كثيرون ان تكليف الرئيس الحريري هو افضل ما يمكن في هذه المرحلة لأسباب كثيرة، وكما يقول الشاعر:
يأتي على المرء ايام محنته ان يرى حسنا ما ليس بالحسن:
اولا: لان التركيبة اللبنانية المعقدة لا تسمح بأفضل من ذلك في الظروف الراهنة.
ثانيا: لان البديل غير متوفر.
ثالثا: لان الفرنسي الذي يفترض ان يساعدنا على الخروج من الازمات، قد تبناه وضغط على السعوديين ليقبلوا به على مضض ... الخ.
كما ان امورا كثيرة تشفع للرئيس الحريري في هذه المرحلة:
أ-لقد تحمّل اذىً لا يطاق من انسان عادي، فكيف من شاب متنعم عاش في الثروة ونشأ فيها وهو رئيس حكومة وزعيم مرموق في بلده، ولولا التدخل الفرنسي وغيره لحل به ما حل (بجمال خاشقجي) رحمه الله او شيء مشابه، فضلا عن تحمله قبل ذلك عناء الدفاع عن خاطفيه في مقابلة تلفزيونية ارغم عليها وعلى اداء دور مصطنع.
هو في حال لا يحسد عليه، وان الضغوط لا تزال مستمرة عليه، من السعودية ومن خلفها فيما لا يستطيع الخروج منها او اعلان ألمه لأنها ولية نعمته، ولأنها لا تزال تملك اوراق ضغط عليه لا تقتصر على عائلته والمقربين والكثير من العقارات والمصالح.
السؤال لماذا تحمّل هذا الاذى: باختصار لأنهم يريدون له دورا مثل الدور الذي يجاهر به شقيقه بهاء، ولا بد من ملاحظة الفارق بينهما:
ب-يقول انه تغير وانه استفاد من اخطائه وهذا سبب قد يكفي لفتح صفحة جديدة خاصة مع عدم وجود البديل.
ج-مقابلته التلفزيونية الاخيرة كان فيها متغيرات ملحوظة ونقد ذاتي مقبول فلماذا لا نعطيه هذه الفرصة؟.

وفي المقابل لا بد ان نسجل ايضا ان موقف الرئيس ميشال عون ابرز "ايجابيات" الرئيس الحريري واصبح بدرجة ما هذا التكليف "انتصارا" بمقياس من مقاييس الحياة السياسية اللبنانية، وذلك ان الرئيس عون في خطابه الذي سبق التكليف، بل وفي اطلالاته الاخيرة كلها، اظهر وكأنه يعيش في كوكب آخر، او كأنه يخاطب اللبنانيين بما لا يعرفونه، يتحدث عن الاصلاح ويمارس عكسه، يتحدث عن التغيير وقد غيّر امورا كثيرة الى الاسوأ، يتحدث عن عراقيل وهو يعرقل كل الحلول وكل الوظائف والتشكيلات القضائية وغيرها.
لم يكن فخامة الرئيس موفقاً على الاطلاق في موقفه ، وظهر ان موقفه من تكليف الحريري هو من باب الكيدية السياسية وليس من اي باب آخر، خاصة وان الذي يعبّر عن الموقف هو جبران باسيل الذي "اجمع اللبنانيون" من كافة الاتجاهات على عدم القناعة به حتى لا نستعمل لفظا آخر.
نعم نقول لفخامة الرئيس ان دستور "الطائف" قد حدد صلاحيات رئيس الجمهورية ونقل اكثرها الى مجلس الوزراء مجتمعا، فجعله في كثير من الاحيان مكبلا بالوفاق وبالتوافق بين المكونات، وبمجلس النواب، وبكثير من المعوقات التي تجعله رئيسا شكليا بنوع ما، لكن في نفس الوقت، اذا نظرنا الى المساحة التي تركها دستور "الطائف" للرئيس، سنرى انه لم يكن موفقا بممارستها:
اولا: بيده، مثلا، ان يصدر قانون عفو خاص، (بشحطة قلم)، كما يقولون، كان يمكنه ان يخفف عذابات الكثير من المظلومين في السجون بعد اعداد لائحة مفصلة لمن يستحق ذلك، (ولا نتحدث طبعا عن الارهابيين ومن قتل الجيش والجرائم الكبرى) ومن عليهم دعاوى شخصية، ولكنه لم يفعل ذلك ولن يفعل على ما يبدو، وكأنه يعيش في مكان آخر من الوطن... لماذا؟ هل لان الذين سيتم العفو عنهم هم من المسلمين بأكثريتهم؟ كما درجت العادة مؤخرا في المقياس الذي يتم استعماله في التوقيع على المراسيم والقرارات هنا وهنالك؟ ام هل لانه يربط ذلك بالعفو عن عملاء اسرائيل؟ هل لامر آخر؟ كل الافتراضات تؤكد انه لا يتقن استعمال صلاحياته.
ثانيا: نكرر ان تعطيل التشكيلات القضائية وكثير من وظائف الدولة يؤكد ما نقول .
ثالثا: قضية (بدري ضاهر) وعدم توقيعه على احالته، واستمرار احتضانه بعد تراكم الاتهامات عليه، حتى ما قبل انفجار 4 آب يشكل نموذجا يؤكد كل شيء الا الاصلاح والتغيير.
رابعا: أزمة الكهرباء: نعم لم يقدم احدٌ دليلا ملموسا على صفقات مشبوهة بموضوع البواخر وغيرها، ولكن عدم الخروج من هذه الازمة منذ عشر سنوات الى اليوم يؤكد ان ثمة ما هو غير سليم، حيث تختفي الشفافية تماما.
خامسا: ان الدور الكبير الذي أُعطي لجبران باسيل بحيث تخلى فخامة الرئيس عمليا عن لقب (بيّ الكل) ليصبح فقط (بيّ جبران) امر قبيح لا نرتضيه لفخامته، لقد اغضب فخامته كثيرين ممن حوله من المخلصين والاكفاء والفاعلين وابعدهم ليحافظ على جبران، اي اصلاح نتحدث عنه بعد ذلك؟.
سادسا: هل هنالك ما يفسر الخصومة مع الوزير سليمان فرنجية الا هذه المعركة المبكرة التي تم فتحها لانتخابات الرئاسة القادمة؟ من الواضح ان الوزير فرنجية وضع نفسه في تصرف الرئيس ولكنه مرشح طبيعي لرئاسة الجمهورية ، فكيف يُقرّب ويتم التعامل معه بشكل طبيعي؟ هذا من اسوأ النماذج.
سابعا: في النهاية نقول للاسف الشديد نعم وبالتأكيد ان قوى عالمية كبرى، معلومة من الجميع، مستعدة لتجنيد كل قواها السياسية والمخابراتية وغيرها لافشال عهد الرئيس عون، ولتشويه صورته لأنه ناصر المقاومة وحالفها، وان هذه القوى الدولية الفاعلة لها في الداخل اللبناني وبين السياسيين عملاء فاعلون مستعدون لبذل كل الجهد لتنفيذ الخطط المرسومة، هذا صحيح بالتأكيد، ولكن الصحيح ايضا انه في المساحة التي في يده ولم تصل اليها ايادي المخابرات لم يقدم لنا النموذج الصالح.
ثامنا: وصحيح انه وقف مع المقاومة وقفة رجل شهم وشجاع وكسر الكثير من التقاليد السياسية البغيضة واقتحم بمواقفه الكثير من "المحرمات" السياسية وحطّم اصنام السياسة والطائفية، ولكن بالمقابل، لقد قام بواجبه، فهل من قام بواجبه في مكان يحق له ان يتخلى عن واجباته في اماكن اخرى؟ بل ان يخالف واجباته ويخرقها بشكل فاضح.
نعم لقد اقتحم الرئيس المحرمات قبل ذلك بالمعنى الايجابي قبل ان يقترفها بالمعنى السلبي، خاصة عندما نقرأ في كتب التاريخ الحديث (الان مينارغ، اسرار حرب لبنان)، على سبيل المثال لا الحصر ان الضابط ميشال عون كان في الدائرة المقربة لبشير الجميل وانه حمل الاسم الحركي (جبرايل) وانه كلف مع (نبتون) الذي هو د. انطوان نجم باعداد خطة للاستيلاء على الحكم اذا لم يتعاون الرئيس الياس سركيس لتسهيل وصوله للحكم ، كان هذا عام 1980 وقبل ان يحسم الصهاينة على ما يبدو قرارهم بالاجتياح: ان يخرج من الدائرة المقربة لبشير الجميل ليصبح الداعم الاهم للمقاومة ويصبح حليفها ليس امرا سهلا.
في رأينا ان هذه الفقرة من تاريخه تتحول الى لائحة الحسنات بعد جرأته في تحوله الى الخيار السياسي المناقض وما بذله في سبيل ذلك من التضحيات.
تاسعا: كما أنه اثبت لمن يحبه ولمن يبغضه انه صاحب القرارات التاريخية، جريء في اتخاذ القرارات يقتحم الصعاب ولا يأبه للعوائق والسدود، هكذا كانت حرب الالغاء والتحرير ، فتح المعركة في وقت واحد على الميليشيات وحواجزها وجباياتها وبوائقها، وعلى "الاحتلال" السوري، كما كان يسميه، بل شن هجومين سياسيين في وقت واحد على السوري والاميركي فيما القادة عادة يصالحون جهة ليقاتلوا اخرى.
كان حاسما حازما واضحا، بغض النظر عن موقفنا السياسي منه في تلك المرحلة بشكل عام... وعندما انسحب الجيش السوري كان بارا بوعده فأقام افضل العلاقات وفاجأ الجميع بزيارته التاريخية الى سوريا في 6-12-2008.
اين هذا الحزم الآن؟ اين هذا الحسم؟ اين الوضوح والشفافية ؟ اين الاصلاح والتغيير؟ نتألم كثيرا لفقدان هذه الصفات واستبدالها بعكسها، ونتحمل شماتة الشامتين الذي كانوا يقولون لنا، لا تدعموا وصول ميشال عون الى الرئاسة، لان الرئيس الفعلي سيكون اذ ذاك جبران باسيل، وهذا الاخير لن يتحمل صبيانيته ونزقه احد، لم نقتنع وقتها ، اليوم يظهرون شماتة معنوية تجاهنا، والحمدلله على كل حال.
قد يكون جواب البعض ان السبب هو تقدمه في العمر، لكننا نملك ادلة ان ضعفه امام جبران سبق وصوله لهذا السن، والله اعلم.
اليوم نقول: ان كانت نفس العقلية ستحكم هذه الحكومة في هذا الظرف المناسب ، نتمنى عليه ان يتنحى وان يدعو الى انتخابات رئاسية مبكرة، يحفظ بذلك ما بقي من ماء وجهه وشهرته وحسناته التي طبعها في الاذهان.
نعم الاستقالة افضل حل إلا اذا اثبت انه سيزيل العراقيل ويساهم في التأليف على غير ما دأب عليه سابقا ... الخ.
لا حول ولا قوة إلا بالله...
في النهاية نتمنى من الرئيس الحريري ان يكون قد درس فعلا اخطاءه ونقاط ضعفه ليتجاوزها في المرحلة القادمة.... (ما اضيق العيش لولا فسحة الامل)...